الاثنين، 20 يونيو 2011

مصر بين سدّين





الجمعة 8/1/2010

في مثل هذا اليوم، قبل خمسين عامًا، وضع الرئيس جمال عبد الناصر حجر الأساس لبناء السدّ العالي. هذا السدّ الذي قُيّم من قبل الهيئة الدولية للسدود أنه أعظم مشروع هندسي شُيّد في القرن العشرين، أعظم من المشاريع العملاقة كمطار "شك لاب كوك" في هونج كونج ونفق "المانش" الذي يربط بين فرنسا وبريطانيا.
ولسنا بمعرض عرض ايجابيات السدّ، وفي صلبها أنّ النيل حمل وجهين لمصر: شريان حياتها ومقتلها في حالات واقعية ما، فجاء السدّ وتاليًا بحيرة ناصر ليحميا مصر من الفيضانات الكارثية ومن الجفاف في آن، وأتاح زراعة عملاقة سنويًا، وهذه ما لم يكن متوفرًا قبل بناء السدّ، وتوليد الكهرباء الضخم الذي قفز بمصر في ذلك الحين.
ولكن هذا الانجاز العملاق لم يكون هو الأساس، فـ"الحكاية مش حكاية السدّ" كما كانت كلمات احمد شفيق كامل تصدح في بيوتنا.
* * *
قبل أسبوعين كنّا في زيارة لأحد الرفاق في مدينة عكا، وشجون الحديث طالت مرحلة عبد الناصر، فهاجم أحد الرفاق بحماس أن "عبد الناصر انحاز لأمريكا وتحوّل إلى الاتحاد السوفييتي بعد أن رفضته أمريكا"، وهذه الجملة ليست عابرة فقد سمعناها من غيره في أكثر من مناسبة، ولعلّ الحديث عن السدّ العالي هو المناسبة الأصحّ لوضع الأمور في نصابها حيث أنها مثّلت الانحياز الناصري الأعمق نحو الاتحاد السوفييتي بعد صفقة الأسلحة التشيكية 1955 وصاعدًا، فناصر الذي قادر الثورة في العام 52 كان يُحسن الظنّ بأمريكا، وصورة أمريكا القبيحة اليوم تُخفِي عنّا  صورة أمريكا بُعيد الحرب العالمية الثانية في نظر الشاب عبد الناصر ابن الإثنين وثلاثين عامّا، والذي رآى بمحاربة الاستعمار معركة ضدّ بريطانيا وفرنسا وهما المستعمِرتان في منطقتنا، أما امريكا التي خرجت عن مبدأ مونرو (الحياد) عنوة، فقد قادت الحرب الكونية العظمى إلى جانب الاتحاد السوفييتي ضد الوحش النازي، والحرب الباردة لم تأخذ مداها حتى ذلك الحين، ولم تدعم أمريكا إسرائيلَ بشكل مميّز عن سائر الدول ومنها الدول الاشتراكية، ولم تقم المخابرات الأمريكية المركزية (CIA) بعد، ولم تمارس أمريكا أبشع جرائمها في "خليج الخنازير" الكوبي أو مذبحة "ماي لاي" الفيتنامية، ناهيك عن الانطباعات الجميلة العامّة التي كانت تصوّرها الأفلام الأمريكية.. هكذا كانت سنوات الخمسينيات الأولى، ثم ظهرت التناقضات بين الدور الأمريكي الإمبريالي وبين مصر بقيادة الرئيس الشاب الذي يريد استقلالا حقيقيًا والذي تحوّل إلى قائد حركات التحرّر الوطني منذ مؤتمر باندونغ 1955.. الأمر الذي قاد ناصر لأن يخطّ الموقف الحادّ بعد منتصف الخمسينيات، وقبيل بناء السد العالي، بقوله: "بالمنطق وبالواقع والدليل... أمريكا- أمريكا هي عدونا الأكبر".
* * *
باكتمال اليوبيل الذهبي على بناء السدّ العالي فوق السحاب، وفي انحدار عضويّ ومباشر لرؤية "السادات" أن: " 99% من أوراق الحلّ بأيدي أمريكا" لم يكن هذا الانحدار إلا أن يُفضي إلى أن تبني مصر اليوم السدّ الواطي تحت التراب.
ويبدو لي أن غالبية السياسيين وغوغائيي الفضائيات ينحون نحو اتجاهين: إما انبطاحي مع "المحاور المعتدلة" وإما "ثوروي" مع حماس في هذه الحالة، ولكن للوطني اليساري موقف مميّز وصلب، فهو ضد "المشاريع المتعقّلة" وأنظمتها، وهذا هو الأساس، ولكنّه لا يقبل بالكبائر الوطنية التي ارتكبتها حماس منذ الانقلاب، وتغييب المقاومة والتنكّر للوحدة الوطنية من أجل التمسّك بسلطتها، حتى رفضها اقتراح إجراء الانتخابات، وهنا بغض النظر عن مثالب في "الورقة المصرية"، فالانتخابات خلال ستّة أشهر تُرجع القرار للشعب الفلسطيني، رئاسةً وتشريعيًا، والفائز يقود شعبه وفْق رؤياه.
إن دور "المستضعف" الـ"Under dog" الذي تمثّله حماس لن يشفع لها في عدم تقديم الأجوبة على الأسئلة المطروحة أعلاه، وفي صُلبها الوحدة الوطنية المبنية على انتخاب الشعب الفلسطيني.
* * *
إن ما يفعله النظام المصري يبرَّر بأن أي دولة لا يمكن أن تقبل بمثل هذه الأنفاق على حدودها، ولكنّ السؤال الأهم هو: ما هو موقف مصر من أهل غزّة؟ وهل المعابر لا تتمّ إلا بالأنفاق؟ ولماذا لا تقدّم مصر بديلا واقعيًا كالمعبر، بالاتفاق؟  إن الموقف الكريم من حقّ أهل غزّة بالحياة- وهو الأمر الأساس- لا يقوّي حماس، وإنّما يقوّي صاحب الموقف الكريم.
إن "مصر السدّ العالي" كانت تفهم الوطنية على لسان عبد الناصر: "إن نظرتي إلى غزّة هي نظرتي إلى مصر.. إن ما يوجّه إلى غزّة يوجّه إلى مصر"، أما "مصر السدّ الواطي" فتفهم الوطنية بأن تحاصَر سفارة الجزائر في القاهرة بعد "ماتش الكورة".  إن "مصر السدّ الواطي" تمنع هيدي ابستين، ابنة الـ85، اليهودية الناجية من الهولوكوست والقادمة على كرسي متحرّك للتضامن مع غزّة في "السلفيستر نايت".
* * *
بين المحاور المتواطئة مع أمريكا، وبين مجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر ومفتي الجمهورية، وبين الأخوان المسلمين الذين نهوا اتباعهم بشدّة عن المظاهرات لأنها "غير مفيدة إطلاقًا" ناهيك عن وجود النساء السافرات فيها، هنالك طريق ثالث أصيل وكريم، يعتمد العقل وتخفق له قلوب الناس، طريق "مصر السدّ العالي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق