الاثنين، 20 يونيو 2011

العيش لوحدنا، تخيلاً (عندما يٌخيّل للأطراف أنها المركز)





 
الجمعة 27/11/2009

قبل عشرين عامًا فقط كنّا لا نشاهد إلا التلفزيون الإسرائيلي، ومن حالفته حالة الطقس ودرجة مَيل الأنتنيا كان يشاهد التلفزيون السوري أو الأردني، ولم نسمع في الراديو إلا "ريشت بت" و"كول يسرائيل"، وكانت الصحيفة الأولى هي "يديعوت أحرونوت" يقرأها المثقف والعامل المغبّر، ويقرأ العمالُ المثقفون والملتزمون "الاتحادَ"، وتقرأ "النخبُ" "هآرتس".
وحتى صحيفة "الاتحاد"، صحيفة الجماهير العربية، كانت في سنوات الخمسينيات والستينيات تكتب عن المجتمع الإسرائيلي عامّة بنسبٍ كبيرة تكاد تصل نصف صفحاتها، فالجريمة التي كانت تحدث في تل أبيب كانت تهمّ الصحيفة، ومعاناة عائلة شرقية في "المعبراة" كانت تشكّل ريبورتاجا طويلا فيها، ناهيك عن المقالات المترجمة عن الصحف الحزبية والعامّة، وفي سنوات السبعينيات والثمانينيات قلّ هذا الاهتمام، وسدر في اضمحلاله حتى كاد ينعدم في العشرية الأولى من القرن الحالي.
وقد كان الشاب العربيّ يذهب للتعلّم في الجامعات الإسرائيلية - عدا بعثات الحزب الشيوعي إلى الدول الاشتراكية - والرجل يذهب إلى "المحامي اليهودي" في المدينة، وتأتي السيارة لأخذ "الولد المُعاق" من القرية إلى معهد التأهيل في المدينة اليهودية أو المختلطة.
وحتى في مثل هذه الأيّام كانت تعجّ أسواق "الهدار" في حيفا وسوق عكا بالقادمين من قرى الجليل، وكذلك شوارع كفار سابا ونتانيا بالقادمين من قُرى المثلث، فالدنيا على وجه عيد، والأولاد بانتظار جديد الملابس.
اليوم "لدينا كل شيء"، فيَفتح العامل على "راديو الشمس" في السيارة الذاهبة إلى العمل، ويتصفّح الشباب مواقع "العرب"، "الصنارة" ،"بانيت"، "بكرا" و"فرفش" وعشرات المواقع العنكبوتية الخاصّة بكل قرية على حدة.. أما الكهول فيجلسون قبالة شاشة عشرات الفضائيات العربية، ناهيك عن محطات الكوابل المحلية والمِنطقية.
يتعلّم عشرة آلاف شاب عربي في عشرات الكليات العربية المنتشرة في مدننا وحتى في القرى متوسّطة الكبر، ويقترب عدد الطلاب العرب في الجامعات الأردنية إلى العشرة آلاف طالب، والمحامون والأطباء العرب موجودون بكثرة، وكذلك المراكز الطبية وصناديق المرضى والمعاهد التأهيلية. وتعجّ مدننا بكل شركات الملابس العالمية من "زارا" و"مانغو" الإسبانيتين إلى "ماركس أند سبينسر" الإنجليزية إلى "تي إن تي" الإسرائيلية، هذا عدا شركات "عمر المختار" في أكثر من مدينة عربية وغيرها الكثير.
هذه الطفرة هامّة جدًا، بل ذات أهمية حاسمة في تطوّر مجتمعنا وتمكينه، ويجب تعزيزها؛ ولكن، وكما للكثير من الأمور الإيجابية، فلها أبعادًا سلبيّة، فهي تجعل العربيّ يشعر أنه يعيش، يؤثّر ويتأثّر على/ في/ من محيطه العربيّ وحسب، ولكن هل حقًا؟!
* * *
إن لهذا التمكين الجيّد في جوهره أبعادًا سلبية يجدر الالتفات لها، فهو يساهم في تعزيز الانكفاء والشعور الموهوم والمتخيّل بأننا نعيش لوحدنا، بكل أبعاد هذا الانكفاء من الإمعان في التقوقع القومي المتوافِق مع سياسة التهميش القومي، وفي الإقصاء العربي الذاتي في دولة تصرّح الحكومات بأنها تريدها "دولة اليهود" حصرًا، والتهميش الطبقي والديمقراطي في دولة برجوازية ويتآكل فيها الهامش الديمقراطي.
إن هذا الانكفاء متعدّد الأبعاد ليس ذاتيًا بدايةً وأساسًا، فالمؤسسة الحاكمة وفروعها من المؤسسات الاجتماعية، الاقتصادية، الإعلامية والثقافية جهدت لإخراج العربي عن الحيّز، وإن أدخلته فكائنًا مشوهًا، إمّا متخلفًا أو "عربيًا إسرائيليًا"، ولكن لم تقبله عربيًا فِلسطينيًا ذا قامة وطنية ووجه حضاريّ.
في ظل العيش اليومي في محارة قومية، رغم حميميّتها، وبتغييب تل أبيب والقدس (مجازًا عن أماكن صناعة القرارات الإسرائيلية) عن وعْينا اليومي، لا نكون نحن مُغيّبين عن مخططاتهما، حيث أن القرارات التي تؤثّر في حياتنا الاجتصاسية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) لا تُحاك في الناصرة او أم الفحم أو طمرة أو رهط، وإنما في القدس وتل أبيب.
هذا الواقع الناشئ الذي يجعل تل أبيب والقدس وأخواتهما مغيّبين عن تفاعلنا اليومي، يساهم في الانكفاء ويجعل المَهمّة لتعزيز دور الجماهير العربية في التفاعل والتأثير العام أصعب، لأن "البعيد عن العين.. بعيد عن القلب"، والبعيد عن التفاعل اليومي مع أمرٍ ما بعيد عن الفكر والوعي فيه، وهذا يجعل مهمّتنا أصعب، فالدفيئة القومية سهلة، ولكنّها - في أبعادٍ ما- جانبية وموهومة، بينما المعركة الرئيسية- في أبعاد ما- هي في عقر الدار، وهي غير مريحة ولكنّها تكون هي الحقيقية والأكثر توجيعًا لأعداء تأثيرنا، لأعداء مجرّد وجودنا.
إن هذا "التفاعل الذاتي والداخلي" هو حكرٌ على الأطراف وليس على المركز، وهو جزء من إرهاصات "العولمة" التي سكب المفكرون العرب في تشريحها أطنان الأحبار لبضع سنوات خلت، حتى خِلتَهم لا يكتبون إلا عنها، فكلما دخلتَ مكتبة وجدت التحاليل عن "العولمة" على كل رفّ وفوق كل "بسطة"، ثم.. لم يعد يكتب عنها أحدٌ! بينما هي موغلة في النهب الاقتصادي والفكري. وفي صلبها نظرية "المركز والأطراف"، فـ"الأطراف"- الدول الفقيرة والمهمّشة- تُدير شؤونها بمعزل عن "المركز" تخيلا. بينما "المركز" ينهب خيراتها ووعي شبابها فعليًا.
قيل للفيلسوف ميلافوفيتش: "إن الطقس بارد في الخارج، لنغلق النافذة" فتساءل بلاغيًا: "وهل إغلاق النافذة سيلغي برودة الطقس؟!" وقيل إن النعامة تدفن رأسها بالأرض كي لا يراها الآخرون! أو كالولد الذي فقد قطعة نقدية في إحدى النقاط المظلمة في البيت، وراح يبحث عنها في المنطقة المضاءة، المنطقة الأسهل، فهل سيجدها؟
* * *
من مهماتنا القادمة دراسة هذه التطوّرات بدقّة من أجل تمكين الجماهير العربية قوميًا وبناء مؤسساتها فهذا حق وواجب وطني، وهذا التمكين بعيد عن الثقافة الوطنية المبتورة التي تُحيّي أول قاضٍ وأوّل روائي وأوّل تاجر... وكأنّنا بدأنا مسيرتنا مع الوجود الإسرائيلي ولم يسبقه قضاة وكتّاب وتجّار فلسطينيون، ثمّ تلتقي بانحدارها الشديد مع ثقافة استهلاك عبر خبر يبشّرنا بـ"أوّل مسلمة تصبح سائقة إسعاف من كفر قرع"!، إلى أن يتمّ استبدال "ديوان القرية" بالموقع الألكتروني الإخباري الخاصّ بالقرية، حيث يصبح كل عرس خبرًا وتصبح قصص الناس اليومية أخبارًا وعشرات الصور بوضعيّات مختلفة لذات الشخص، هي ذات أحاديث الديوان لتجزية الوقت ولكن دون العلاقة الإنسانية والقهوة السادة التي ميّزت دواوين قرانا.
يجب تعزيز التمكين الذاتي الفلسطيني، تمكينًا أصيلا ينفع الناس، وفي الوقت ذاته التثقيف على النضال العام في الميادين المركزية والتاثير العربي اليهودي المشترك في عقر السياسة الإسرائيلية، هذه المهمّة الأخيرة تُصبح أصعب في ظل الوضع المتخيَّل بأنّنا نعيش لوحدنا، ولكنّ في هذا الطرح المتداخل- التمكين الذاتي والنضال العام- ما يميّز طرح الجبهة. وللأسف، لوحدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق