الاثنين، 20 يونيو 2011

موقف مثير للاعتزاز





الخميس 23/7/2009

اليوم هو الذكرى السابعة والخمسين لثورة 23 تمّوز المصرية، التي ملأ قائدها الدنيا وشغل الناس، حتى أنّه كان العامل الأساس لبعض التأثيرات الفارقة في تاريخ الحركة الوطنية واليسارية للجماهير العربية الباقية في وطنها.
بهذه المناسبة أردت المشاركة في المساهمات التي تكتب في "الاتحاد" حول تاريخ الحزب الشيوعي بمناسبة تسعين عامٍ على تأسيسه. وتنطلق مساهمتي من قراءة لكتاب حديث الصدور عنوانه "العرب في السياسة الإسرائيلية ونشاطهم العربي القومي" لكاتبه "يئير بويمل"، وقراءة للمؤتمر الخامس عشر للـ"حزب الشيوعي الإسرائيلي" (ماكي) بقيادة ميكونس- سنيه- فلنسكا. وليس المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي (راكح) الذي نعرفه نحن.
في هذا الكتاب وذاك المؤتمر نسمع رأي ميكونس وسنيه بالانقسام الذي حدث في الحزب الشيوعي سنة 1965، وفي ذلك إطلالة من الموقع الآخر على الانقسام، حيث أنّا درجنا على سماع رأي رفاقنا بذلك. فيقول مكونيس: "إن سبب الانقسام الرئيسي هو جمال عبد الناصر، وناصر كان أهم الشخصيات قاطبة، حيث أنه ألدّ أعداء دولة إسرائيل، وأعزّ قادة العرب أينما كانوا. لذا فالموقف منه قضيّة مركزية بكلّ معنى الكلمة، وذات أبعاد واتجاهات مختلفة". ويكمل: "ومنذ سنة 58 أخذنا- ميكونيس وسنيه وإستر فلنسكا وآخرون- نطالب بإدانة تصريحات وخطابات ناصر، فرفض فلنر- طوبي- حبيبي ذلك بشدّة، واستمرّ هذا النقاش الحادّ حتى بداية سنة 1965". ويُضيف: "لقد سَلّم الاتحاد السوفييتي وسامَ لينين لأحمد بن بله. فكتبتُ مقالا في "كول هعام" (صحيفة الحزب الشيوعي بالعبرية أ.ع) ندّدتُ فيه بتسليم الجائزة لبن بله لأنّه يدعو إلى إبادة دولة إسرائيل. وكسكرتير عام للحزب أرسلتُ المقال لنشره في "الاتحاد"، إلا أن "الاتحاد" رفضت نشره، ورغم إصراري رفضتْ بإصرار. فطلبتُ عقد جلسة للّجنة المركزية. وهذه التداعيات- ناصر وبن بله- كانت السبب الأساسي للانقسام" - إلى هنا أقوال ميكونس.
الحقيقة أنني ما كنت لأُضيف كلمة على أقوال ميكونس، فما يراه هو مثلبة وانحراف أراه مثارَ اعتزاز للموقف الأممي والوطني الصلب الذي خطّه الحزب الشيوعي بقيادة فلنر- طوبي- حبيبي كما ارتأى ميكونس أن يُسمّي الخط المواجه، وإن كان الاختلاف بين الاتجاهيْن لم يقتصر على هذا المسألة وحسب.
إن تركيز ميكونس على الموقف من ناصر أعادني إلى تناول تلك المرحلة من اتجاه آخر. ففي سنة 1959 حدث خلاف بين القوميين والشيوعيين في "الجبهة الشعبية" (التي تأسست سنة 58 وشملت قوميين وشيوعيين عرب) وكان السبب الأساس لهذا الخلاف ومن ثَمّ الانقسام، هو أن القوميين والشيوعيين اختلفوا في بعض التقييمات حول جمال عبد الناصر. ونجد تدعيمًا لذلك في مصدر آخر مختلِف مع الحزب، وهو كتاب حبيب قهوجي بعنوان "العرب في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948" (ص 444).
أي أن القوميين العرب أخذوا على الشيوعيين موقفهم النقدي لعبد الناصر، وإن كان بنّاءً وداعمًا في جوهره. أما الـ"شيوعيون" المنحرفون فهاجموا الشيوعيين لأنهم مع عبد الناصر على طول الخط حتى أفضى الاختلاف إلى الانقسام سنة 1965.
حريّ هنا التذكير أن القائد الاستثنائي جمال عبد الناصر قد اعترف بخطئه بالوحدة المتسرّعة مع سوريا (وهو اعتراف ضمني بصحّة موقف الشيوعيين) ومن أبرز أسباب فشلها كان دور "القوميين الكبار" في سوريا ودور البرجوازيين السوريين الذين تابعوا إصلاحات ناصر الاشتراكية في مصر فارتعبوا من وصولها إلى سوريا، بالإضافة إلى تجاوزات المشير المثير عبد الحكيم عامر وزبانيّته. عدا على أنّ الوحدة بُنيت دون تهيىء صحيح مما جعل أمريكا وإسرائيل وأعوانهما يعملون على إجهاض المشروع الوحدوي. وفي سنة 61 ترمّمت العلاقة بين ناصر والشيوعيين، حيث وصفها محمود أمين العالم جذلا بـ"صافي يا لبن".
موقف الشيوعيين المؤيّد لناصر، هو الموقف المؤيّد لطرد الإمبريالي البريطاني من مصر، والانتصار السياسي والمعنوي على العدوان الثلاثي الإمبريالي وسنان رمحه إسرائيل، والموقف من دول عدم الانحياز والصداقة مع الاتحاد السوفييتي والعداء لأمريكا، والموقف من حركة التحرّر العربي والعالمي وبدايات تطبيق الاشتراكية في مصر. لهذا وقف الحزب الشيوعي مع عبد الناصر.
لم يكن الأمر سهلا، فالانقسام ضربة لخيار العيش المشترك والنضال المشترك العربي اليهودي. ولم يكن الموقف من ناصر سهلا في تلك المرحلة التي أساء فيها للشيوعيين أيّما إساءة، وإن كانت مؤقّتة. وليس سهلا لأن مجرّد ذكر إسم ناصر كان مرعبًا داخل إسرائيل. ورغم ذلك كلّه اتخذ الحزب بيهوده وعربه موقفًا أمميًا صلبًا، ولا بدّ أنّه كان أصعب لدى الرفاق اليهود الذين اتخذوا هذا الموقف الصلب الأممي والبطولي بلا شك.
ويجدر هنا التفكير أنّه إذا كان ميكونس يرى بالموقف من جمال عبد الناصر خصوصًا وحركة التحرّر الوطني عمومًا هو السبب الأساسي للانقسام، فلماذا لم يُركَّز على ذلك في أدبيّات الحزب؟
للإجابة على هذا السؤال يجب استحضار سياق سنوات منتصف الستينيات وهي:
- عبد الناصر هو ألدّ أعداء الدولة.
- الدولة في أجواء حرب مع ناصر سبقت حزيران 67، ناهيك عن الحكم العسكري.
- في نهاية الخمسينيات جرت عدة أبحاث داخل المؤسسة لإخراج الحزب الشيوعي من القانون، وعندما انقسم الحزب أصبح هنالك بديلٌ "شيوعيٌ" (ماكي) والآن يُمكن الاستفراد بـ (ركح) وإخراجها من القانون، خاصّة أن حركة الأرض قد أُخرجت من القانون في تلك المرحلة، وتعزّز التحريض على (ركح) باعتبارها عنوان التطرّف.
 لذا فالمرحلة كانت دقيقة وخطيرة وتتطلّب حنكة في التعامل لتفويت الفرصة على المؤسّسة.
________
هذا التاريخ يعزّ على كل وطني وكل تقدّمي. لذا أسمح لنفسي أن أوجّه نداءً خالصًا إلى رفاقي في قيادة الحزب أن أصدروا، ضمن أبحاث "تسعين سنة على الحزب"، تقييمًا لتلك المرحلة التي ميّزتها البطولة والتضحية في الجانب الشعبي، وكذلك الخطوط العريضة الصحيحة في الجانب الرسمي ولكن شابتها ثقوب عميقة حفرتها مجموعة المتصهينين وأساءت إلى هذا التاريخ المجيد. كما أن تاريخ الحزب الشيوعي ورفاقه بعد الانقسام هو امتداد للتاريخ الناصع قبل الانقسام دون شوائب المتصهينين، وهذه هي الصخرة الأساس التي يقف عليها النقد.

ومن هنا يصعب على كل ما يتحلى بحد ما من الموضوعية والعلمية الموافقة مع المؤرخين المختلفين الذين يحاولون النيل من هذا التاريخ. فالحقيقة هي أن الحزب تخلّص من العناصر الصهيونية وممارستها داخل الحزب وباسم الحزب قبل أن يؤسَّس أي حزب عربي آخر، وتخلّص الحزب من بعض الشوائب التي بقيت عالقة لاحقًا، وهنا أيضًا كان نقد الحزب ذاتيًا أكثر منه خارجيًا، كما أن جزءًا كبيرًا من الذين يهاجمون هذا التاريخ كانوا جزءًا منه، ببطولاته العريضة وشوائبه القليلة، ولم يتركوا الحزب في التسعينيّات لأن فزعةً وطنية دهمتهم على حين غَرّة حول هذا الموقف أو ذاك في بداية الخمسينات، فالقصّة "مش ع رمّانة" كما يقول مثلنا الشعبي. ومع ذلك فمن الضرورة بمكان أن يقيّم الحزب بوضوح وثقة هذه التجربة من أجل أن لا يخرج علينا كلّ يوم دعيٌّ آخر، وهذه علامة قوّة للحزب في نهاية المطاف.

* * *

أرى لزامًا وطنيًا وأخلاقيًا عليّ الدفاعَ عن تاريخ الشيوعيين لأنّه يستحّق هذا الدفاع أساسًا، وثانيًا لأنه رغم وجود حركات وطنية غير الشيوعيين وليس من الإنصاف إنكار ذلك، ولكن دور الشيوعيين كان المثابر الوحيد منذ النكبة وصاعدًا وفي المقابل كانت السلطة وأعوانها، والإساءة إلى دور الشيوعيين له معنى واحد، وهو أنّه لم تكن حركة وطنية ولم يكن تاريخ وطني لهذا الجماهير.
 هذا الموقف يخدم أعداء شعبي وروايتهم. ولكن للوطنيين رواية أُخرى تمّ اجتراحها بالملاحقة والسجون والنفي وقطع الأرزاق وهو الوجه المشرق لشعبنا الذي صنعه الشيوعيون، هذه هي الحقيقة التي من واجب كل وطني تثبيتها، حرصا على ذاكرتنا الجماعية وعلى مستقبلنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق